الحركة الدعوية قد تُخطئ سُلَّمَ الأولويات، فتهتم بالثقافي أو السياسي على حساب الأخلاقي، فتتقوقع داخل ذاتها وتحاصر نفسها بنفسها، بسبب ان الطبقة المثقفة أو المسيسة، هي عمومًا محدودة محصورة
القرآن أساسا فهو متن الرسالة وهو الحجة، وهو الدليل، وهو الصاحب، وهو الأنيس، وهو الدواء، وهو الشفاء باذن الله
وظيفة الأنبياء هي تجديد الدين بالوحي، كما ان وظيفة العلماء هي تجديد الدين بالعلم
بعد هذا الاستطراد الذي أكثر فيه الكاتب رحمه الله على المسائل الدعوية والحركية التي يؤكد فيها على تحديد المراد بالحركة الاسلامية ومفهوم العمل الاسلامي الحركي والعام من بيان أهمية اعتبار القرآن قبل السلطان ومناقشة الأمور المتعلقة بالدولة والدعوة، ومكانة التأطير والتنظيم في مسيرة الحركة الاسلامية ليأتي في نهاية المطاف ويحصد نتاج البيان العلمي والتأصيلي لمنهجه الفكري ليطلق دعوة عامة تجمع ما ذكر ثم يبدأ بالاستدلال عليها ومخالفة المنهج العلمي في تأخير الحكم والرأي بعد ذكر الأدلة، ليس عن قلة فهم للمنهاجية العلمية في المناقشة، بذكر المسألة ثم الأدلة ومناقشتها ثم ذكر الحكم الذي يراه، بل على اعتبار أنه استعمل أسلوب الاستقراء الشامل لموضوع الدولة والدعوة، في النصوص القرآنية والسنة والتاريخ القديم والحديث ثم واقعية الحركة من خلال كتابات المفكرين فيها، فهو يقرر بعد الاستطراد الذي ذكرناه في الصفحات السابقة ان العمل الاسلامي التجديدي انما هو عمل للدين قبل الدولة، وطلب للقرآن قبل السلطان».
وبعد هذا التقرير قال رحمه الله: ونسلك في الاستدلال على ذلك مسلكين اثنين:
أحدهما شرعي.
والآخر اجتماعي، ونعرضهما مندمجين وتفصيل ذلك هو كالآتي:
وذلك ان العمل السياسي، والاصلاح الدستوري والقانوني كما سبق بيانه ليس أصلا من أصول العمل الدعوي، وانماهو فرع من فروعه، وليس مقدمه من مقدماته، وانما هو نتيجة من نتائجة! ولا هو عمل مفتاحي في المشروع الاسلامي الشامل، وانما هو وسيلة تبعية من وسائلة فاذا صح ذلك في التصور والممارسة، فلا مانع بعده ان تشارك هذه الحركة أو تلك في العمل السياسي، ولكن دائمًا بصفتها دعوة، لا عملاً سياسيًا مجردًا، كسائر السياسات العارية التي خربت البلاد والعباد! ومشاركتها قد لا تكون بالضرورة بنفسها ودعاتها، هذه حقيقة مهمة جدًا فمن أخطر أخطاء العمل الاسلامي المعاصر الوقوع في شرك تحزيب الاسلام.
ان المشاركة السياسية: مفهوم له صيغ متعددة لتحقيق مناطه في مجال التدافع السياسي، أصحها وأقربها الى الحق ما ضمن المحافظة على الجوهر التعبدي للعمل السياسي، والعمق الدعوي لخطابه ومواقفه، هدفًا ووسيلة، وضمن الاستيعاب الاجتماعي الكلي، الذي لا يلغي بطبيعته الرسالية والتنظيمية المنتمين الى سائر الهيئات السياسية والاجتماعية.ان ذلك يتحدد بحسب طبيعة المكان والزمان والانسان، وحسب الظروف الدولية والمحلية.
ان للحركات الاسلامية ان تمارس حقها في التعبير السياسي، وتدفع في اتجاه اقامة الدين على هذا المستوى بالشروط الدعوية التي قوامها قول الله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَاذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إلّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}(1) ان الاسلام دين أولاً، ودولة ثانيًا! وانما الدولة اطار لضمان شمولية التدين في المجتع، ومن هنا وجب ان نضع في الاعتبار ان هياكل الدولة الحديثة، ومكوناتها على الاجمال، مقبولة اسلاميًا ومن حيث المبدأ، في كلياتها على العموم، وانما هي في حاجة الى (استصلاح)، بتعبير علماء أصول الفقه، كما ان القوانين الوضعية على الرغم مما فيها من مناقضات للأحكام الشرعية هي في مجملها قابلة (للاستطلاح) الشرعي، وذلك بتأصيل نصوصها تأصيلاً، يربط مصدريتها التشريعية الأولي بالمجمع عليه اسلاميًا من أصول المنهجية التشريعية: الكتاب والسنة والاجماع، ثم الاجتهاد، وينفي عنها بعد ذلك المناقضات الصريحة للتشريع الاسلامي، القطعي الدلالة والثبوت.وأنها والله غاية عالية ولكنها لن تدرك حقيقة الادراك الا بايجاد شعب يقبل ذلك أولاً، ومستعد لحمايته بدمه ورزقه، وان شعبًا لا يصبر على نقص في الأموال، والأنفس والثمرات في سبيل دينه لهو شعب لا يزال في حاجة الى تربية ودعوة وما أوهم من يظن بأن هؤلاء الناس قد بلغوا ذلك فعلاً، وهذه النفسية الاستهلاكية على الطريقة الغربية لا تزداد الا شرهًا، وتحكمًا في الناس بمن فيهم الاسلاميون أنفسهم في كثير من الأحيان، وفي أشد مواقعهم الغالية والمتشددة.الأمة اليوم لا تزال بعيدة عن ادراك سقف، لما تُبْنَ جدرانه وقوائمه بعد، قال الله جل جلاله: {أَلَمْ تَرَ الَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ اذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا الَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا}(2)..
المرحليه الدعوية بين النظرية والواقع:
يقول الاستاذ فريد الأنصاري رحمه الله:
انها مراحل دعوية واضحة بينة، لمن له بصر بالسيرة وخبرة بمنهج القرآن في عرض وقائعها، وصنع مدارجها، ويدور اليوم جدل بين الاسلامين حول ما يسمى بـ(فقه المراحل)، أو (المرحلية) في المجال الدعوي بين متبنٍ لها على (ظاهرية) حرفية ومنكر لها جملة وتفصيلا، وأحسب ان المشكل ليس هاهنا، فالمرحلية حقيقة واقعية في تاريخ الدعوة الاسلامية النبوية، بل هي سنة من سنن الله في الخلق والتكوين، بدءًا بخلق الأجرام الكبرى في الفضاءات حتى خلق الانسان وسائر دقائق المخلوقات وانما المشكل هو في فقه (تحقيق مناطاتها)، فها هنا زلت الأقدام، وانزلقت الأفهام، واما تؤخذ الأمور في فقه المراحل كما تؤخذ في الفقه بمقاصدها أو عللها.
والانطلاق في كل ذلك من طبيعة النص الشرعي من جهة، ومن طبيعة الواقع والظرف العام من جهة أخرى فيؤخذ من كل ذلك ما يناسب الشرع والناس، مما علته قائمة وحاجته واضحة، حيث ان من جزئيات أحكام المراحل ما ينبني على (علة متعدية)، ومنه ما ينبني على (علة قاصرة على الأصل) بتعبير الأصوليين لا تقبل قياسًا ولا تعميمًا ولذلك كانت تعدية القول بالمرحلية الى أحكام الشرع من الأصول القواطع، كتأجيل العمل بتحريم الخمر، من حيث انه لم يحرم الا في اطار الدولة بالمدينة المنورة، جهلاً قطعيًا بمعنى المرحلية وفقهها.
الدعوة بين الأخلاق المجتمعية والمسألة السياسية:
ان أكبر تحدِّ تواجهه الأمة اليوم وضمنها حركات الدعوة الاسلامية نفسها على مستوى التدين الصرف هو التحدي الأخلاقي بالمعني (الاسلامي) لكلمة (أخلاق) كما سيأتي بيانه، أي من حيث هي كلمة أخلاق انتماء حضاري لا بالمعني السلوكي العارض.
والدين كلمة كبرى، لها أصول اعتقادية وأخرى عملية، وفروع شتى بين هذه وتلك تمتمد من الأفعال القلبية الوجدانية الى الأفعال العقلية الذهنية، الى أعمال العبادات الفردية الى السلوك الاجتماعي في سائر مجالات الحياة الاجتماعية، والاقتصادية، والحقوقية، والسياسية..الخ ويجمع ذلك كله ما يعرف لدى العلماء بـ(أمهات الفضائل وأمهات الرذائل)، أي كليات الخير والشر.
ان الصحوة الاسلامية المباركة، الممتدة على عرض العالم الاسلامي اليوم، تواجه في كثير من البلدان من لدن خصوم الدين وأهله، ثم استقرَّبنا بالمشاهدة والمتابعة الى ان أخطر من يؤثر سلبًا في حركة التدين في المجتمعات، انما هو الفساد الخُلقي المسلط عليها من كل حدب وصوب وأن الوسائل الدموية التي تنهكها في بعض الأحيان، أو بعض المواقع، لم تكن لتنهكها لولا هبوط مستوى التدين، والوعي به، لدى عموم الشرائح الاجتماعية المحيطة بها.
ذلك ان الحركة الدعوية قد تُخطئ سُلَّمَ الأولويات، فتهتم بالثقافي أو السياسي على حساب الأخلاقي، فتتقوقع داخل ذاتها وتحاصر نفسها بنفسها، بسبب ان الطبقة المثقفة أو المسيسة، هي عمومًا محدودة محصورة، بينما يمتد وحش الانحلال الخُلقي، والتفسخ الاجتماعي ينهش جسد المجتمع، ويضرب بنية التدين فيه، بصناعة رأي عام، ينفر من الخطاب الديني، ويميل الى الانغماس في الشهوات والملذات العفنة المخدرة.
ان المجتمع المتدين بطبعه، أو القابل للتدين، الذي لا يمنعه من ذلك الا غبار الغفلة والنسيان أو الكسل العام، هو مجتمع مناصر للمشروع الاسلامي الدعوي بالقوة، وان لم يكن كذلك بالفعل، ان بعض العاملين للاسلام المخلصين لدعوته يغترون بالوجه السياسي المحارب للمشروع الاسلامي، فيجعلون ذلك أساس المعركة ورأس الأولويات الدعوية في أوطانهم بينما غالبًا ما يخفي ذلك الوجه خطأ أخطر من ذلك وأدهي، هو تقويض صرح الشعور الديني لدى مختلف الشرائح الشعبية في البلاد الاسلامية، وذلك بضرب البنية الخلقية التحتية، التي هي أساس قيام الأسرة المسلمة، حيث استمرار المحافظة على بيضة الدين في المجتمع وتلقينها للأجيال من خلال الخطاب التربوي البسيط الذي تمارسه الأمهات والآباء.
وبعد ان قرر الدكتور فريد رحمه الله نظريته في آلية الدعوة الى الله كان من الضروري ان يبين ذلك ببيان دعوي قرآني كما جاء في عنوان الكتاب «البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي نحو بيان قرآني للدعوة الاسلامية».
ويبدأ ذلك في ذكر قطعة تربوية لابن القيم يقول فيها: «ان حقيقة الرسالة تبليغ كلام المرسل، فاذا لم يكن ثمَّ كلام فماذا يبلغ الرسول؟ بل كيف يعقل كونه رسولاً؟ ولهذا قال غير واحد من السلف: من أنكر ان يكون الله متكلماً، أو يكون القرآن كلامه فقد أنكر رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، بل ورسالة جميع الرسل، التي حقيقتها: تبليغ كلام الله تبارك وتعالى».
ومن هنا كانت حقيقة الدعوة الاسلامية: تبليغ القرآن للناس، فان قيل: ان القرآن اليوم قد بُلِّغَ الى العالم بأسره، فيلزم عن ذلك ان الدعوة قد استنفذت أغراضها، قلت: ليس التبليغ المقصود مجرد ايصال النص وحسب، ولكنه تبليغ مفاهيم الايمان به الى الناس، الايمان من حيث هو احساس ووجدان، وبقدر درجة الايمان وفيض الوجدان يكون التبليغ، فالداعية اذن مبلغ متفاعل متأثر لا مردد للنص أو مستظهر له وكفى!
ان الدعوة القرآنية: ان تنزل الى الناس بمفاهيم القرآن في العقيدة والعبادة والسلوك، وتبشر وتنذر به، تاليًا له ومستشهدًا به، فهو حجة الله على عباده، فحينئذ يكون القرآن متحركًا من خلالك، فيراه الناس فيك كما يسمعونه منك سلوكًا ومواقف! وتلك اذن (تلاوته حق تلاوته) كما قال جل جلاله: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}(البقرة: 121) ولذلك فعندما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خُلق النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: «كان خلقه القرآن»(2).الخلق النبوي الديني الذي يجد ما يجد من لذة القرآن، فيغب منه بلا انقطاع، ما يروي مواجيده، وينير بصيرته، ويعمر قلبه، فاذا به لا ينطق الا بهدي القرآن ولا يتحرك الا بنوره واذ يعرضه على الناس كذلك، فانه يكون وقعه كأنما يسمعونه لأول مرة، لأنهم يسمعونه ويرونه حركة تفيض بالحياة! تلك هي (البعثة) حقًا في تجديد الدين، والا فالقرآن هو القرآن، والاسلام هو الاسلام، ولكن القلوب هي التي كلت وعميت، لما طال عليها الأمد وتفرقت بها الأهواء قال جل جلاله:{ألم يئن للذين آمنوا ان تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون}(الحديد: 16).
ان الناس في حاجة شديدة الى القرآن الكريم، ينزل عليهم مرة أخرى من جديد عبر (بعثة) تحيى فيهم كل موات! عبر الدعاة الى الله: الدعاة الربانيين، المتفاعلين به، المستمدين لنوره، والمتكمين بمفاهيمه، يتنزل عليهم سورة سورة وآية آية، يتنزل على نوازلهم، وقضاياهم، وسائر شؤونهم النفسية والاجتماعية، يتحرك به الدعاة في كل مكان على أنه (رسالة الله) اليكم! أنتم أيها الناس! فردًا فردًا، وأسرة أسرة ومؤسسة مؤسسة…الخ! يجب ان يكون هو حديثهم الذي لا يسأمون منه، واشتغالهم الذي لا يفترون عنه، ويجب ان يثيروا حركة واسعة للتنقيب عن معادنه، والبحث عن درره، وأسراره، لمعرفة مقاصد الرسالة فيما أرسلت؟ ولِمَ؟
والقرآن هو السر (الأعظم) في هذا الدين فيا حسرة على الناس! لو علموا: ما القرآن!..{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر: 21) ان القرآن رسالة، والدعوة الى الله انما هي تبليغ هذه الرسالة، وانما يتم (التبليغ) باتمام الايصال الى المحل المرسل اليه، والا فلا تبليغ! وكل داعية خال من الحرارة والوجدانية تجاه القرآن هو آلة معطلة مقفلة غير صالحة للتبليغ! ويتصور في (الرسالة) أي رسالة أربعة أركان: (1) المرسل.(2) الرسول.(3) والمرسل اليه.(4) ومتن الرسالة، وانما تتحدد قيمة الرسالة بتحديد قيمة (المرسل) ولذلك فقد جرت العادة البشرية ان المرسل اليه ينظر في الرسالة أول ما ينظر الى: (من أرسلها؟) أي الى المرسل، من هو؟ اذ بمعرفة الجهة المرسلة تتحدد قيمة الرسالة المتوصل بها.بهذا الاعتبار يجب ان يتلقى القرآن الكريم، يكون له في الأنفس شأن آخر! ان محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم لم يكن يملك قبل (البعثة) شيئًا حتى قضى الله (باحياء) الأرض بعد موتها، فأرسل اليه وهو بغار حراء بضواحي مكة أن: (اقرأ) فقال سبحانه {اقرأ باسم ربك الذي خلق} (العلق: 1)، ومنذ ذلك الحين ومحمد بن عبدالله يحمل (عزم) الرسالة ومهمة التبليغ الثقيلة {انَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} (المزمل: 5) فنزل الى المجتمع البشري يبشر وينذر بالحقيقة القرآنية الكبرى! معتصمًا بتوجيهات الرحمن مما نزل عليه في بيان أصول دعوته، من قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)} (المدثر: 17)، ومن حينها وهو يعتمد القرآن أساسا فهو متن الرسالة وهو الحجة، وهو الدليل، وهو الصاحب، وهو الأنيس، وهو الدواء، وهو الشفاء باذن الله.
ان للقرآن تأثيرًا خاصا لو تنبه اليه الناس اليوم، فها هي قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مثالاً لمحورية القرآن الدعوية فقد رُوِيَ عنه أنه قال: (خرجت أبغي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ان أسلم، فوجدته قد سبقني الى المسجد، فقمت خلفه، فاستقطع سورة الحاقة، فجعلت أعجب من تأليف القرآن، قال فقلت: هذا والله شاعر كما قالت قريش! قال: «{انه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون} (الحاقة: 40، 41) قلت: كاهن، قال: {ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون، تنزيل من رب العالمين} (الحاقة 42، 43).الى آخر السورة، قال: فوقع الاسلام من قلبي كل موقع»(1).
بل أثر القرآن فيمن لم يُسْلِمْ من أشهر العرب الذين عرضه عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واسمعهم اياه فهذه قصة الوليد بن المغيرة اذ عرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن فتأثر به تأثرًا بالغًا، ولم يسلم! فعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن الوليد بن المغيرة جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه، فقالك: يا عم ان قومك يريدون ان يجمعوا لك مالاً.فقال لم؟ قال: ليعطوكه، فانك أتيت محمدًا لعرض ما قبله.قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً.قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له! قال: (ماذا) أقول فوالله ما منكم رجل أعرف بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه، ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا والله ان لقوله الذي يقول لحلاوة، وان عليه لطلاوة، وانه لمثمر أعلاه، ومغدق أسفله، وانه ليعلو ولا يعلى عليه، وانه ليحطم ما تحته! قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه.قال: قف عني حتى أفكر فيه، فلما فكر قال ان هذا الا سحر يؤثر، يأثره عن غيره! فنزلت: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14)}(المدثر 11، 14).
ومما روي عن مصعب بن عمير رضي الله عنه اذ جاء به أسعد بن زرارة الى حائط بني ظفر، فجعل يقرئ الناس القرآن، فقصده كل من أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ كل على حدة، وكلاهما سيد قومه، وكلاهما مشرك على دين قومه.وانما كان يريدان طرد الرجلين من الحائط، فكان كلاهما يقول لمصعب وأسعد بن زرارة (ما جاء بكما تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا ان كانت لكما بأنفسكما حاجة؟ فقال مصعب: أو تجلس فتسمع، فان رضيت أمرًا قبلته، وان كرهته كُفَّ عنك ما تكره، قال: أنصفت ثم ركز حربته وجلس اليها، فكلمه مصعب بالاسلام وقرأ عليه القرآن، فقالا فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الاسلام قبل ان يتكلم، في اشراقه وتسهله، ثم قال: ما أحسن هذا الكلام وأجمله! كيف تصنعون اذا أردتم ان تدخلوا في هذا الدين(3).
فهذه النصوص- ونحوها في كتب السير والمغازي كثيرة- كلها ثبتت أمرًا مشتركًا واحدًا هو ان مدار الدعوة الاسلامية في زمانه صلى الله عليه وسلم كان هو القرآن الكريم، ذلك أنه هو متن الرسالة كما ذكرنا، وموضوع التبليغ من رب العالمين الى العالمين.
ان حديث الرسول صلى الله عليه وسلم «ان العلماء ورثة الأنبياء»(4) واضح في هذه المسألة، ذلك ان وظيفة الأنبياء هي تجديد الدين بالوحي، كما ان وظيفة العلماء هي تجديد الدين بالعلم، وانما علم العلماء موروث عن الوحي، فالعلماء اذن امتداد للأنبياء بهذا المعني.اننا في حاجة شديدة الى مدرسة قرآنية في فقه الدين وفقه الدعوة، تقوم على اعادة الاعتبار لكتاب الله بين المسلمين أولاََ، باعتباره أساس الخطاب الالهي للانسان، وباعتباره الوثيقة الأولى التي تنص على هندسة العمران الاسلامي لبناء النفس والمجتمع(5).
هامش:
( ) فصلت: 34، 35.
(2) النساء: 77.
(3) القصة مفصلة في صحيح السيرة النبوية (ص 106، 107) أخرجه ابن اسحاق والطبري والطبراني والبيهقي بطرق مختلفة، قال الأستاذ ابراهيم العلي (فيكون الحديث بمجموع هذه الطرق حسنا).
(4) البيان الدعوي ص 187 – 195.
(5) انظر الكتاب الطبعة الأولى سنة 1430 – 2009 نشر دار السلام للنشر والتوزيع ج.م.ع.