الاستفادة من التاريخ في تصحيح المسار

 

بقلم :  الشيخ الدكتور جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين

 

التعرف على الله والتعريف به

إن النهوض قد يقع بإنجاز (خطوة إلى الوراء من أجل خطوتين إلى الأمام)

إننا قررنا أن ننطلق (من القرآن إلى العمران) على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سيرته ودعوته

وأما عمران السلطان: فهو البناء الكفيل بإخراج السلطان القرآني، أي طبيعته العمرانية وعمقه النظامي

لقد قادني التدبر في القرآن العظيم إلى أن أكتشف أن «النظر لا يغني عن الإبصار»

إن نجاح المشروع الدعوي ليس رهينًا بعدد المتبعين، بقدر ما هو رهين بعدد المبْصِرِينَ والمبَصِّرِينَ

إن التدبر والتفكر كليهما يعتبران بمثابة الضوء أو الشعاع المسلط على الأشياء

إن جماع توحيد الربوبية يؤول إلى إثبات الأسماء والصفات لله رب العالمين، إثبات إيمان وتسليم، لا ينحرف به تأويل، ولا يزيغ به تعطيل، ولا يحزمه تشبيه أو تجسيم

لقد تبيَّن- لمن يتبين- في غبار أحداث العالم الكبرى التي تندلع عن تواتر الانهيارات الكبرى منذ مطلع الألفية الميلادية الثالثة، ان موقع المسلمين عامة، ومواقع أهل الشأن الدعوي منهم خاصة، قد تراجعت الى خط الدفاع الأخير! ولعل في ذلك خيرًا للاسلام والمسلمين، علمه من علمه، وجهله من جهله، فذلك- ان أُحْسِنَ استيعابه وتوظيفه- مما سيقدح انطلاق دورة جديدة لحركة تجديد الدين في العالم- بحول الله- بمستوى أعلى، وبأداء أرفع.
ثم تبين- أيضًا- ان المضي بالدعوة في مسارها المشاهد اليوم في كثير من البلاد، مضي لا يراعي الظروف الجديدة، انما هو مقامرة بمصير الأمة، ذلك ان هذا المسار يغلب فيه الاستعراض على الاستنهاض، ويطغى فيه النداء على البناء! والحاجة اليوم اختلفت عما كانت عليه قبل سنوات، ولقد نطق شرق الغرب- من قبل- بحكمة مشهورة تنص على ان النهوض قد يقع بانجاز (خطوة الى الوراء من أجل خطوتين الى الامام) وتلك مقولة لها أصل أصيل في صناعة القتال عند المسلمين، مفادها ان (من لا يحسن الفر لا يحسن الكَرَّ).
ويجمع الأطباء على ان أخطر مراحل التطبيب هو تشخيص الداء، قبل وصف الدواء. ومن المقرر ان مشروع الحركة مشروع اجتهادي قد تتباين وجهات النظر فيه من التوفيق الى الاختلاف، وحتى التناقض أحيانًا.بينما الدعوة أو (الصحوة) هي في الأغلب الأعم اشتغال بالمعلوم من الدين بالضرورة، فقلما يميل الشأن فيها حتى الى مجرد الاختلاف، لا الى دفق التنافي والتناقض.فقل لي بربك: لو أنك استدعيت محاضرًا أو عالمًا من كل حركة ممن يُعلم اختلافهم الحاد في مواقفهم السياسية وبرامجهم التغييرية، ثم أوكلت لكل منهم ان يتحدث للناس في موضوع (المقاصد التعبدية في الاسلام) أو (خطر الفساد الأخلاقي)، بشرط التجرد عن الهوى التنظيمي، أفلا يكون الكلام منهم جميعًا واحدًا في الجوهر، لا تنافي فيه ولا اختلاف الا كما تختلف العبارات والأساليب في عرض الأفكار؟.
ثم يقول- رحمه الله: اننا قررنا ان ننطلق (من القرآن الى العمران) على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سيرته ودعوته، هذا هو الطريق ان شاء الله.فلن نصدر كتبنا الدعوية بعد اليوم، ولا تجاربنا العملية- ان شاء الله- الا بهذا المنهج وعلى أساسه، تصورًا وتطبيقًا.ولا نبني بناءً، ولا نعمر تعميرًا الا على أساس من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.ان القرآن العظيم تصميم رباني راقٍ لبناءٍ فخم، ما كلف الانسان الا بانجازه، على شموليته وامتداده، بدءًا بعمران الانسان، حتى عمران السلطان.
فأما عمران الانسان: فهو البناء الكفيل باخراج (الانسان القرآني)، المشار اليه في قوله- جلا وعلا: {إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ الَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ ان يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}(1). وحينما نقول (الانسان) فهو الفرد والمؤسسة، وهو الوجدان الذاتي والجماعي، وهو الأسرة الواحدة، والنسيج الاجتماعي، وهو العامة والخاصة، وهو المجتمع والدولة..الى غير ذلك من الثنائيات التي يستوعبها مصطلح (الانسان) من القرآن الى العمران.
وأما عمران السلطان: فهو البناء الكفيل باخراج السلطان القرآني، أي طبيعته العمرانية وعمقه النظامي، وهو المشار اليه في قوله تعالى: {الَّذِينَ ان مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}(2).
والله جمع عمران الانسان وعمران القرآن، ليتم كمال «العمران» هو (عمران الاستخلاف) الذي يشمل كل النشاط البشري، ويستوعب كل أبعاده الكونية، وهو المعبر عنه في القرآن بقوله تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا الَيْهِ ان رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ}(3)، وقوله- جلا وعلا: {وَإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ انِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}(4).

التبصر في المنهج بداية الطريق:

يقول الأستاذ فريد: لقد قادني التدبر في القرآن العظيم الى ان أكتشف ان «النظر لا يغني عن الابصار. وعلى هذا فالمرض- اذًا- نظر بلا ابصار.يقول الله تعالى: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ الَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}(5)، ويقول- سبحانه وتعالى: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}(6)، والبصائر جمع بصيرة، وهي الآية التي تبصر الناس حقائق الوجود وتدلّهم على الطريق السالكة الى الله عند تعدد الطرق السالكة الى غيره، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً}(7) مضيئة للأشياء، ومسببة بذلك للأعين في الابصار- الابصار النفسي أو الابصار القلبي لا ابصار الجوارح، قال تعالى: {فَإنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}(8). والابصار نتيجة طبيعية للتدبر. ولهذا كان الخطاب القرآني {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ ان يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}(9).
ولهذا يرى- رحمه الله- ان نجاح المشروع الدعوي ليس رهينًا بعدد المتبعين، بقدر ما هو رهين بعدد المبْصِرِينَ والمبَصِّرِينَ.واني أعتقد جازمًا ان ظهور الحركة الاسلامية اليوم، عارٍ تمامًا من كل حماية، فهي تقف كذلك على خط المواجهة، غير محمية الظهر، فتصاب من خلفها كما تُصاب من أمامها، وأحسب ان الرجوع الى الأصول البدهية في الدين، انما هو رجوع الى اعتلاء جبل الرماة، الذي كان اخلاؤه سبب هزيمة المسلمين في معركة أحد.
وبعد ذكره للتبصر، انتقل الى التحدث عن التدبر ومعناه اللغوي، وهو «تتبع دبره» أي نظر الى أواخره وعواقبه ومآلاته كيف هو اذا صار اليها. وكيف يكون؟ فتدبر القرآن وآيات القرآن هو النظر الى مآلاتها وعواقبها في النفس وفي المجتمع، وذلك بأن تقرأ الآية من كتاب الله فتنظر- ان كانت متعلقة النفس- الى موقعها من نفسك، وآثارها على قلبك وعملك، تنظر ما مرتبتك منها وما موقعك من تطبيقها أو مخالفتها؟ وما آثار ذلك كله على نفسك، وما تعانيه من قلق واضطراب في الحياة الخاصة والعامة؟ تحاول بذلك كله ان تقرأ سيرتك في ضوئها، باعتبارها مقياسًا لوزن نفسك وتقويمها، وتعالج أدواءك بدوائها، وتستشفي بوصفتها. وأما ان كانت تتعلق بالمجتمع، فتنظر في سنن الله فيه كيف وقعت وكيف تراها اليوم تقع، وكيف ترى سيرورة المجتمع وصيرورته في ضوئها عند المخالفة وعند الموافقة. ثم تنظر ما علاقة ذلك كله بالكون والحياة والمصير.
وهنا نلج الى باب آخر من أبواب القرآن الكريم رديف للتدبر، بل هو منه، ذلك هو التفكر.ان التفكر غالبًا ما يَرِد مذكورًا في القرآن في سياق النظر في خلق الله، والتأمل في بديع صنعه، كما في قوله تعالى: {إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا انَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا انَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْايمَانِ ان آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)}(10)، فكل هذه الأدعية العابدة، الحارة، الخاشعة، الباكية، انما هي نابعة عن الاحساس الحاصل للعبد بُعَيْدَ التفكير في خلق الله.فاقرأ الآيات وتدبر معانيها تجد ان المؤمن لما يسيح في جنبات الكون الفسيح، يشعر بعظمة الله الواحد القهار، وتأخذه الرهبة من جلال مالكه وعظمة سلطانه، فيسرع هاربًا الى مساكن رحمته وجمال غفرانه.
ان التدبر والتفكر كليهما يعتبران بمثابة الضوء أو الشعاع المسلط على الأشياء، تمامًا كما تسلط الشمس أشعتها المشرقة- في اليوم الصحو- على الموجودات، فتبصرها الأعين الناظرة. فكذلك التدبر يكشف حقائق الآيات القرآنية، ويكشف حقائق الآيات الكونية، حتى اذا استنارت هذه وتلك، أبصرها المتدبرون والمتفكرون، وكانت لهم فيها مشاهدات لا تكون لغيرهم، ولذلك قال جلا وعلا: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}(11).

التعرف على الله والتعريف به(12)

ان أول مقاصد القرآن هو تعريف الناس بالله، المتكلم بالقرآن، ولذلك جاء تعريف الله لذاته- سبحانه- باسمائه الحسنى مباشرة بعد التنبيه على عظمة هذا القرآن، كأنه قال لك: اعرف القرآن أولًا لتعرف الله، أوليس هو تعالى المتكلم بالقرآن؟ قال جل جلاله يصف ذاته: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا الَهَ الَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا الَهَ الَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأسماء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)}(13).
أما المعرفة بالله فدرجات ومراتب، وما أحسب هذا الشرود الرهيب عن باب الله في هذا الزمان، الا دليلًا قاطعًا على الجهل العظيم، الذي يكبِّل الناس ان يبحثوا عن ربهم الذي خلقهم، بما يصنفنا دون أدنى مراتب المعرفة بالله، تراخينا عن سلوك طريق المعرفة به في الرخاء، فبقينا هملًا أو لقيًا في مزبلة التاريخ! وبقيت وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا دون وفاء، فكان لها مفهومها المخالف في واقعنا.

«تعرف الى الله في الرخاء يعرفك في الشدة»(14)

حق الخالقية اذن هو مفتاح المعرفة بالله.وهذا الحق بقدر ما هو معلق بذمة الانسان لربه خلقه، فانه يستفيد منه معنى عظيمًا لوجوده، ان احساسه بوجوب هذا الحق عليه يخرجه من التيه الوجودي، الذي ضاعت فيه أفكار الكفار من العالمين، أو بعبارة قرآنية: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ}(15). وأي ظلام أشد من التصور العيشي للحياة! أو كما قالوا: (ان هي الا أرحام تدفع وأرض تَبْلَع!) فبأي نفسية يعيش الانسان هذه الحياة، وهو يرى ان غايتها الى العدم المطلق والفناء الرهيب، الذي ما بعده من حياة؟ فأي لذة يجدها في متعها وهو يعتقد أنها الى زوال قريب؟ ذلك ما يقوده غالبًا الى الشره المتوحش في تناولها، أو الى العزوف القلق ثم الانتحار! ألا ما أشد وحشة الكفر والضلال! فالحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به آخرين.
ان معرفة الله من ها هنا تبدأ، بالشعور بالفرح به تعالى، ربًا خالقًا، والأنس بجماله سبحانه، فيمتلئ القلب شوقًا اليه تعالى، ثم تنشط الجوارح للسير الى بابه الكريم، والعروج الى رضائه عبر مدارج السالكين، ومنازل السائرين، فيجد الانسان كل الأنس كلما ازداد معرفة بالله- جل جلاله. وانما مدارج المعرفة به تعالى ان ينطلق المسلم من توحيد الربوبية الذي ينفتح بابه على العبد أول ما ينفتح من الشعور بحق الخالقية كما قررناه، ذلك ان الرب من حيث هو مالك للمربوب، ذلك معناه العام في اللغة وفي الشرع(16). فرب الدار: مالكها، وربة البيت: سيدته، ورب السيارة: صاحب السيادة عليها. الا ان (المالكية) الحقة انما تقع في الواقع على من يملك أصل الاختراع والابداع، انشاءً وتطويرًا.ذلك هو المالك الحقيقي للشيء، وذلك هو الله- جلا جلاله- في ربوبيته للكون والخلق أجمعين.
انه مالك كل شيء خلقًا وابداعًا، وزيادةً ونقصًا، واحياءً واماتةً، وبدءًا واعادةً، وبعثًا ونشورًا. وما كان ذلك كله ليكون لولا أنه هو- عز وجل- الذي خلق.ومن هنا كان أول وصف لذاته تعالى نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، في بدء تعريفه بالله ربًا: {اقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}(17)، فهو الرب اذن وأول ما وصف به نفسه تعالى أنه {خالق}، لأن الربوبية انما ترجع في حقيقتها الى هذا المعنى كما بيناه آنفًا، ومن هنا اطراد هذا المبدأ في القرآن الكريم، حتى لا تكاد تخلو سورة منها، بدءًا بالفاتحة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}(18) حتى سورة الناس {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}(19). فالقرآن الكريم اذن كله قائم على ترسيخ مفهوم الرب في قلوب المربوبين، عسى ان تستجيب فِطَرُهُم لأداء حق الربوبية بتوحيد الالوهية عبادة الله رب العالمين.
والأسماء الحسنى هي مدخل التعريف بالله ربًا، وهو توحيد الربوبية، كما في هذه الآيات.وهي كذلك مدخل التعريف به الهًا، وهو توحيد الألوهية، كما في قوله- جلا وعلا- من سورة الأعراف: {وَلِلَّهِ الْأسماء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي اسمائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(20).
ان جماع توحيد الربوبية يؤول الى اثبات الأسماء والصفات لله رب العالمين، اثبات ايمان وتسليم، لا ينحرف به تأويل، ولا يزيغ به تعطيل، ولا يحزمه تشبيه أو تجسيم، فهو تعالى {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}(21).
كما ان المعرفة بالله تملأ قلبك أنسًا بالله، ثم أنسًا بالحياة، وأنسًا بالكون والكائنات، وأنسًا بالموت الذي لن ترى فيه- اذ تقف عليه- الا موعدًا جميلًا للقاءٍ جميلٍ، مع رب جميل.فذلك ذوق الاحسان في قمة المشاهدات الايمانية، وانما «الاحسان: ان تعبدالله كأنك تراه، فان لم تكن تراه فانه يراك». ألا يا حسرة على الناس اذ جهلوا بالله! فالتعرف الى الله والتعريف به هو رأس العلم، وتلك هي زبدة المعرفة، وعليها ينبني ما بعدها من كلمات في بلاغ الرسالة القرآنية، فلا مبدأ من مبادئها، ولا ركن من أركانها، الا وهو مضمَّن في المعرفة بالله.

الهوامش:
( ) التوبة: 18.
(2) الحج: 41.
(3) هود: 61.
(4) البقرة: 30.
(5) الأعراف: 198.
(6) الجاثية: 20.
(7) الاسراء: 12.
(8) الحج: 46.
(9) الحشر: 2.
(10) آل عمران: 190- 194.
(1 ) الأنعام: 104.
(12) بلاغ الرسالة القرآنية ص 57 – 91.
(13) الحشر: 21 – 24.
(14) أخرجه أحمد (1 / 307)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (2961).
(15) البقرة: 257.
(16) لسان العرب مادة (ربب).
(17) العلق: 1.
(18) الفاتحة: 2.
(19) الناس: 1.
(20) الأعراف: 180
(21) الشورى: 11.

Scroll to Top